هل تجاوزت المسيحية فعلاً تاريخها الطّويل من الخلاف والصّراع؟ (2) الثورة البروتستانتية: انقسام عظيم ثانٍ في جسد الكنيسة

هل تجاوزت المسيحية فعلاً تاريخها الطّويل من الخلاف والصّراع؟ (2) الثورة البروتستانتية: انقسام عظيم ثانٍ في جسد الكنيسة

هل تجاوزت المسيحية فعلاً تاريخها الطّويل من الخلاف والصّراع؟ (2) الثورة البروتستانتية: انقسام عظيم ثانٍ في جسد الكنيسة

رائد الاعمال المفكر العربي حسن اسميك…

الخمسينية والأنغليكانية واللوثرية والمعمدانية والكنائس المتحدة والمشيخية أو الإصلاحية والميثودية والأدفنتست والأبرشانية وكنيسة الإخوة البليموث وجيش الخلاص والكنيسة المورافية.. هذه كلها فروع لشجرة واحدة، غرسها راهب ألماني قرر المخاطرة بكل شيء وتحدي التعاليم الرسمية للكنيسة الكاثوليكية، عندما علَّق ورقة بـ 95 بنداً إصلاحياً على أبواب كنيسة قلعة فيتنبرغ، في ساكسونيا -ألمانيا.

لكن لماذا الإصلاح؟

في مقال سابق مخصص لتأريخ الكنيسة الكاثوليكية، تحدثتُ عن نمو هذه الكنيسة وهيمنتها شبه التامة في العصور الوسطى على كل أوروبا، وعن الفساد الذي بدأ ينتشر فيها، والممارسات التي أثارت استياء الكثيرين، من أتباعها قبل غيرهم.. وقلتُ إن هذه كلها أسباب بعيدة أو غير مباشرة للثورة التي أطلقها مارتن لوثر.

أما السبب القريب أو المباشر، والأكثر شهرة بطبيعة الحال، فهو “صكوك الغفران”.

في أوائل القرن الحادي عشر، بدأت الكنيسة الكاثوليكية إصدار ما بات يُعرف اليوم بـ “صكوك الغفران”، وهي وثائق تتعهد فيها الكنيسة إعفاء حاملها من عذاب المطهر.

انتشرت صكوك الغفران في ظل الحروب الصليبية حين وعدت الكنيسة الجنود المشاركين في “الحرب المقدسة” بالحصول على الغفران الكامل مقابل توبتهم واستعدادهم للموت في المعركة. ثم بعد انتهاء الحملات الصليبية استمر رجال الدين في منح صكوك الغفران لمن يقوم بأعمال خيرية، أو للذين يزورون الأماكن المقدسة في روما. ويحق للكاهن، بحسب رتبته الدينية، أن يصدر هذه الصكوك ضمن صلاحيات محددة، فلا يحق لأسقف أن يصدرها إلا في نطاق أبرشيته، أما البابا، فيمكنه إصدار صك غفران لمن يشاء.

ومع مرور الوقت، تحولت صكوك الغفران إلى تجارة رابحة للكنيسة. فقد كان الباباوات يلجؤون إليها كلما احتاجوا للمال. ولكل صكٍّ سعره الذي يتناسب مع تقييم الكاهن لفداحة الخطيئة المرتكبة، ومع كون الغفران سيشتمل على الخطايا القديمة أيضاً، أو الحديثة فقط، أو ربما حتى التي ستُرتكب مستقبلاً!

وأشهر من ارتبط اسمه بصكوك الغفران كان البابا ليو العاشر، واسمه الأصلي “جوفاني دي لورينزو دي ميديشي”، فهو ينتمي إلى آل ميديتشي عائلة النبلاء الإيطالية التي حكمت فلورنسا لمدة خمسة قرون، بل ويحمل اسم “جوفاني دي باكو ميديتشي” نفسه الذي أسس أول بنك في فلورنسا، والذي أصبح سريعاً أحد أهم البنوك في أوروبا، وأكسب هذه العائلة ثروة طائلة.

لقد كان البابا ليو العاشر محباً للفخامة والبذخ، وذا ذائقة فنية عالية، ويقال إنه كان يموّل الأعمال الفنية من مال الكنيسة الخاص، ما أدى إلى عجز مالي كبير في خزينة الفاتيكان، فلم يكن أمام البابا، الذي لم يبلغ الأربعين بعد، سوى اللجوء إلى إصدار “صكوك الغفران” وبيعها. هذا هو البابا الذي عليه سَيَثور مارتن لوثر، وهو من سيطرد لوثر من الكنيسة. دعونا قبل ذلك نتعرف الى لوثر نفسه.

رجل قانون أم رجل دين؟

ولد مارتن لوثر في 10 تشرين الثاني(نوفمبر) عام 1483، لأبويه هانز ومارغريت لوثر، في بلدة آيسليبن الصغيرة، في مقاطعة ساكسونيا الألمانية. وتلقى، وهو الابن الأكبر بين كثير من الأخوة، تعليماً صارماً، والتحق بجامعة إرفورت وهو في السابعة عشرة من عمره، ليدرس القانون بأمل أن يصبح محامياً كما أراد والده.

لكن، وتحديداً في 2 تموز (يوليو) 1505، عاش لوثر حدثاً قد يبدو عابراً، لكنه سيغير مسار حياته، ومن ثم تاريخ العالم المسيحي كله، رغم أن هذا الحدث لم يكن سوى صاعقة رعدية شديدة كادت تودي بحياته، ليتعهّد أنه لو نجا منها فسيكرس حياته لله. ولمّا كُتبت له النجاة ترك الجامعة وانضمّ الى دير القديس أوغسطين في إرفورت، تاركاً كتب القانون خلفه ومعتكفاً على دراسة الكتاب المقدس.

أما الحدث المصيري الثاني في حياة لوثر فكان بعد 10 أعوام، عندما أرسلت روما الراهب الدومينيكي يوهان تيتزل عام 1516 إلى ألمانيا ليبيع فلاحيها صكوك غفران من أجل تمويل إعادة البناء الكبرى لكاتدرائية القديس بطرس في روما. أثار هذا التصرف استياء مارتن لوثر، فكتب محتجاً على هذه الممارسة منشوراً كبيراً سيُعرف لاحقاً باسم “أطروحات لوثر الخمس والتسعين”.

مارتن لوثر مصلح بالصدفة؟

عشرات الصور واللوحات والأعمال الفنية تصور ذاك الراهب الأوغسطينيّ الشابّ الذي لم يكن بعد قد تجاوز الثالثة والثلاثين، يمسك بيده ورقة طويلة ويثبّتها على باب الكنيسة بيده الثانية التي تحمل مطرقة.

ما ثبّتَ به لوثر اعتراضاته، لم يكن مجرد مسمار وحسب، بل إسفيناً دُقَّ في جسد العالم المسيحي وقسّمه -مرة وإلى الأبد- إلى قسمين: الكاثوليكية التي تتبع البابا في روما، والبروتستانتية التي تتبع تعاليم لوثر.

والمثير للدهشة حقاً، وللسخرية لدى البعض، أن هذه “الحادثة” الشهيرة لم تحدث أبداً، ولم تكن سوى أسطورة تم اختلاقها لإضافة الدراما والإثارة إلى هذه اللحظة التاريخية. في الواقع، لم يكن هناك شهود عيان على هذا الحدث، بل حتى لوثر نفسه كان غامضاً بشأن ما حدث، ولم يصرح بأكثر من أنه أرسل “أطروحته” إلى رئيس الأساقفة المحلي.

ليس هذا وحسب، فعندما تسمع عن اعتراضات لوثر الـ 95 تظنُّ أنها مطالب حازمة حاسمة غير قابلة للتفاوض لإصلاح الكنيسة، لكنها كانت في الحقيقة أقرب إلى مقترح للنقاش العام بين علماء الكنيسة، أو في المناظرات التي بدأت تنتشر في الجامعات التقليدية التي كانت في معظمها من إنشاء الكنيسة الكاثوليكية. لكن، ورغم أن لوثر لم يكُن ينوي شنَّ هجوم شامل على روما الكاثوليكية، إلا أن لهجة اعتراضاته لم تخلُ من الاتهامات، كما في الأطروحة 86 مثلاً، والتي سألت بجرأة:

“لماذا يريد البابا الذي ثروته اليوم أكبر من ثروة كراسوس، بناء كاتدرائية القديس بطرس بأموال فقراء المؤمنين وليس من ماله الخاص؟”. وكراسوس هذا سياسي وعسكري روماني شهير توفي عام 53 ق.م. وكان في زمنه أغنى رجل في روما، وربما في العالم، فقد امتلك ثلث عقارات روما، وتجاوزت ثروته إيراداتها السنوية.

إذاً، مارتن لوثر، الرجل الذي أشعل شرارة ثورة دينية هزت العالم المسيحي كله، لم يكن أكثر من لاهوتي مخلص للكنيسة الكاثوليكية، لكن إيمانه تعرض للاختبار عندما رأى فساد رجال الدين الذين كانوا يبيعون صكوك الغفران مقابل المال، ما أثار لديه السؤال الكبير عن طبيعة الخلاص، فلا دليل كتابياً على أنه يتحقق بهكذا صكوك أو حتى بالأعمال الصالحة، بل بالإيمان بيسوع المسيح، وبهذا الإيمان فقط.

وحتى عندما اشتعلت ثورة الفلاحين على الإمبراطورية والكنيسة عام 1524، والتي تأثرت إلى حد كبير بأفكار لوثر، وطالبت بإلغاء الأعباء الإقطاعية، وبالمزيد من التمثيل السياسي، والإصلاح الديني، وذلك لتحسين الأوضاع المعيشية المزرية التي عاشها بسطاء ألمانيا، ورفع الظلم الواقع عليهم، لم يدعم لوثر هذه الثورة، وكتب منشوراً ضدها بعنوان “ضد الفلاحين القتلة واللصوص”، وأيَّد حق حكام ألمانيا بقمع الانتفاضة. وبالفعل، قُمعت ثورة الفلاحين بشدة من قبل النبلاء الألمان، واستخدموا كامل ترسانتهم من الأسلحة لمواجهة الثائرين بما فيها المدافع، فقُتل ما يقدر بنحو مئة ألف فلاح.

كذلك، وفي السياق نفسه، يمكن القول وبشدة، أن إصلاحات لوثر لم تكن لتتحول إلى ثورة حقيقية، لولا أنها جاءت في لحظة تاريخية مناسبة، فصكوك الغفران كانت تُباع منذ أكثر من ثلاثة قرون، وكثيرون انتقدوها سابقاً، ولم يكن لوثر هو أول من تحدث عن إصلاح الكنيسة، لكن سبقه إلى ذلك مصلحون عدة مثل القديس فرنسيس الأسيزي (1181-1226) أحد أوائل المصلحين، والذي دعا إلى حياة أكثر تواضعاً، وإلى تركيز أكبر على الخدمة المسيحية. وجاء بعد ذلك جان هوس (1369-1415) المبشر التشيكي الذي جادل بأن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد لسلطة الكنيسة، وأن كل شخص يجب أن يكون قادراً على قراءة الكتاب المقدس باللغة التي يفهمها. وجون ويكليف (1324-1384) الإنكليزي الذي قال بأن الكهنة يجب أن يتزوجوا، وقدم طرحاً قريباً جداً من طرح لوثر، وهو أن الإيمان وحده هو شرط الخلاص. وهناك أيضاً إيراسموس روتردام (1466-1536) الإنساني الهولندي الذي انتقد الخرافات الشعبية في الكنيسة، وحثّ على العودة إلى تعاليم المسيح الأصلية.

أما لماذا لم تتحول حركات هؤلاء إلى ثورة كما حدث مع لوثر، فيرجع إلى أنها لم تأت في اللحظة التاريخية المناسبة التي تضافرت فيها العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومعها الدينية، المناسبة.

أما من يقول إن ثورة لوثر دينية محضة، وإنها قامت نتيجة إفلاس الكنيسة كقوة روحية وحسب، فهو يبسّط الأمور ويختزلها. صحيح أن الكنيسة كانت منخرطة بعمق في الحياة السياسية في أوروبا، فتأثرت بمؤامراتها ومكائدها، وصحيح كذلك أن مظاهر مثل بيع صكوك الغفران وغيرها من أشكال الفساد وبناء الثروة على حساب المؤمنين قد شككت إلى حد ما في السلطة الروحية للكنيسة، لكنها لم تقوّضها، بل ظلت الكنيسة تتمتع بولاء كبير وانتماء عالٍ من أغلب أتباعها. أما المتغير الأكثر أهمية فهو تعاظم محاولات السلطات السياسية لتقليص الدور العام للكنيسة، وهذا ما سنتطرق له في الحديث عن المجريات اللاحقة لتقديم لوثر أطروحته الشهيرة.

كالنار في هشيم أوروبا

انتشرت أطروحات لوثر كالنار في الهشيم عبر ألمانيا أولاً حين ترجمها أصدقاؤه عام 1518 من اللاتينية إلى الألمانية. كذلك، مُنح لوثر ورفاقه قدرات كبيرة على الانتشار بفضل اختراع ثوري متقدم هو “المطبعة”، والتي مكّنت البشرية من نقل كميات هائلة من المعلومات ومشاركتها بسهولة بين عدد كبير من الناس. فانتشرت كتابات لوثر المناهضة لرجال الدين ومقالاته التي كانت مكتوبة باللغة الألمانية، لغة الشعب، بدلاً من اللغة الأكاديمية اللاتينية الأكثر غموضاً و”رسمية”، فأقنعت كثيرين بقضيته بسرعة وسهولة، ولم يستغرق الأمر أكثر من عام لتصل أطروحاته إلى فرنسا وإنكلترا وإيطاليا.

خلال هذه الفترة، ظهر مصطلح “اللوثرية” للمرة الأولى، وقد صيغت في البداية كمصطلح مهين لما اعتُبر بدعة، لكن وعلى امتداد القرن السادس عشر، صارت اللوثرية اسم أول عقيدة بروتستانتية حقيقية في العالم. أما مصطلح “بروتستانتي” فاستُخدم أول مرة في سياق سياسي عام 1529، وذلك في اجتماع شارل الخامس الإمبراطور الروماني المقدس مع الأمراء الألمان في مدينة سبالدينغن. وفي الاجتماع، رفض الأمراء التوقيع على قرار الإمبراطور الذي يؤكد على سلطة البابا في الكنيسة الكاثوليكية. ووصف الإمبراطور هؤلاء الأمراء بـ “المحتجين”، أو باللغة اللاتينية “Protestanti”.

لم يكن لوثر نفسه معجباً بمصطلح “اللوثرية”، وفضَّل تسمية فلسفته بـ “الإنجيلية”، من المصطلح اليوناني الذي يعني الأخبار السارة، وهكذا درجت المسميات الثلاثة. ولكن مع ظهور فروع جديدة من البروتستانتية، أصبح من المهم التمييز بالضبط بين الإيمان الذي يعتنقه أتباع كلّ منها.

إذن، تحول لوثر سريعاً إلى شوكة في خاصرة البابوية. وبعد أن هدّده البابا ليو العاشر بالحرمان الكنسي إذا رفض التراجع عن آرائه (عبر مرسوم بابوي أحرقه لوثر علناً)، طُرد فعلاً من الكنيسة مطلع عام 1521. كذلك أعلنه الإمبراطور الروماني تشارلز الخامس مهرطقاً وخارجاً عن القانون. وصدر أمر باعتقاله، وحُظرت مؤلفاته كلها.

السياسة تنقذُ لوثر

كما أشرتُ سابقاً، يرتبط أحد أهم أسباب نجاح ثورة لوثر بأنها جاءت في لحظة تاريخية مناسبة، اجتمع فيها الديني مع السياسي والاقتصادي والتقني أيضاً. ولذلك فإن ما حال دون تمكّن الكنيسة الكاثوليكية من لوثر، ومن محاكمته وربما إحراقه كغيره من “المهرطقين”، هو أمر يتعلق بالسياسة بقدر ما يتعلق بالدين. ففي ما يُعرف اليوم بألمانيا، كانت الإدارة مناطة بمجموعة من الأمراء، يخضعون لسلطة الإمبراطور الروماني، لكن بعض هؤلاء الأمراء لم يكونوا مسرورين بهذا الخضوع، ومن أبرزهم فريدريك الثالث، أمير ساكسونيا الذي أبقى لوثر في مأمن من معتقليه المحتملين، عبر “اختطافه” وإخفائه بين أسوار قلعة فارتبورغ في أيزنباخ.

وسأتوسع في المقال القادم في الحديث عن تأثير علاقة هؤلاء الأمراء بالإمبراطور من جهة، وببعضهم بعضا من جهة ثانية. فقد تحول الصراع بين الأمراء الألمان المؤيدين للكاثوليك والموالين للوثرية إلى حرب أوروبية شاملة، وهي حرب الثلاثين عاماً الكارثية (1618–1648) التي أسفرت عن مقتل ما يصل إلى 20% من سكان أوروبا.

انكبّ لوثر، متخفياً في قلعة فارتبورغ، على ما اعتقد أنه العمل الأكثر أهمية؛ ترجمة العهد الجديد من اليونانية إلى الألمانية. وبالفعل، وصل القس المطرود من الكنيسة الليل بالنهار لينهي الترجمة بمفرده خلال 11 أسبوعاً، ولينشر الإنجيل عام 1522 باللغة الألمانية، ولتصير تعاليمه للمرة الأولى في متناول الجمهور الألماني العادي، فلم يعد بحاجة لكهنة يقرؤون له رسالة المسيح باللغة اللاتينية. شجعت هذه الترجمة ترجمة أخرى مماثلة باللغة الإنكليزية. ففي عام 1525، قام الإنجليزي ويليام تيندال بترجمة العهد الجديد، لتكون ترجمته أول كتاب مقدس مطبوع باللغة الإنغليزية.

كالفن ومصلحون آخرون

كثيراً ما يؤخذ على مارتن لوثر أنه أعلن اعتراضه على أفكارٍ وممارسات كنسيّة مختلفة، لكنه لم يقدم طرحاً منهجياً فعلياً للإصلاح، ونظاماً بديلاً محدداً، بل ترك هذا الأمر وانكبّ على أمور أخرى اعتقَد بأنها أكثر أهمية. وهذا ما يدفعنا للحديث عن جون كالفن، المحامي الفرنسي الذي فرّ من بلاده بعد تحوّله إلى البروتستانتية، واتجه إلى الجارة سويسرا، وأصدر فيها كتابه “تأسيس الديانة المسيحية (باللاتينيّة: Institutio Christianae religionis)” عام 1536، والذي يعدُّ أول أطروحة لاهوتية منهجية لحركة الإصلاح الجديدة.

وافق كالفن على تعليم مارتن لوثر عن التبرير بالإيمان، ولكن مع اختلافات مهمة أبرزها دور القانون المدني والكنسي ومكانته في إيجاد حالة من الانضباط تمنع أي سلوكيات شاذة، فكانت الكالفينية أكثر “انضباطاً” من اللوثرية، وذلك لأن الكالفينيين اعتقدوا أن كل الأمور المتعلقة بالحياة العامة هي مسؤولية الكنيسة والدولة. وقد أدى ذلك إلى تطوير أنظمة أكثر صرامة للحكم والقانون في المجتمعات الكالفينية، الأمر الذي يمكننا من القول بأن الكالفينية أكثر “تطرفاً” من اللوثرية.

أما في إنكلترا، فقد كانت جذور الإصلاح سياسية ودينية، إذ، ومن أجل أن يُطلِّق زوجته، ثار الملك هنري الثامن على سلطة البابا، وأنشأ الكنيسة الأنغليكانية، ونصّب نفسه رئيسها الأعلى. فكان هذا التغير الجذري في بنية الكنيسة مقدمة التغيير الديني في إنكلترا، بما في ذلك استخدام اللغة الإنكليزية في الصلوات. وفي إسكتلندا، قاد جون نوكس الذي كان متأثراً بأفكار جون كالفن، تأسيس المشيخية، وهي نظام حكم الكنيسة الذي يقوم على الديموقراطية. وكان هذا التغيير مهماً للغاية، لأنه جعل اتحاد إسكتلندا وإنكلترا أمراً ممكناً في النهاية.

الإصلاح الكاثوليكي المضاد

بالطبع، لم تقف الكنيسة الكاثوليكية مكتوفة الأيدي، مع أنها في البداية حاولت تجاهل أفكار لوثر، لكن انتشارها السريع والواسع أجبر الكنيسة الأم على الاستجابة لهذا التهديد الهائل بخطوات وقرارات عملية إصلاحية عُرفت باسم “الإصلاح المضاد” الذي هدف لتجديد الكنيسة الكاثوليكية من الداخل، وإعادة تأكيد تعاليمها وممارساتها.

فمثلاً في عام 1534، أسس القديس إغناطيوس دي لويولا جماعة اليسوعيين، وكانوا من أهم الحركات في الإصلاح الكاثوليكي المضاد. تميز اليسوعيون بنشاطهم التبشيري، والتزامهم النظام والانضباط. وفي عام 1545 افتتحت الكنيسة “مجمع ترينت” للتعامل مع القضايا التي أثارها لوثر، ضمَّ كبار المسؤولين في الكنيسة الذين عقدوا 25 جلسة على امتداد نحو 18 عاماً، بشكل رئيس في مدينة ترينت شمال إيطاليا. ورغم ذلك ما زال موضوع الإصلاح المضاد جدلياً إلى حدٍّ ما، بين من يقول إنه كان حركة حقيقية وجذرية، وبين من رآه إجراءً شكلياً، لم يغيّر إلا بعض القشور والأمور الثانوية، أما الجوهريات فقد عززها وثبّتها. بداية، وكأمر طبيعي، رفض المجمع عقيدة التبرير بالإيمان فقط –التي كانت المحور الأساس لأطروحات مارتن لوثر الـ 95– وأكد أهمية العمل الصالح في عملية الخلاص. وفي حين أنه أكد أهمية الكتاب المقدس كمصدر للإيمان المسيحي، أكد في الوقت نفسه على أهمية تفسير الكتاب المقدس وفقاً لتقليد الكنيسة الكاثوليكية.

وبينما كان لوثر قد رفض سلطة البابا المطلقة، واعتقد أن البابا ليس معصوماً من الخطأ، أكد المجمع هذه السلطة، وعقيدة عصمة البابا في الأمور المتعلقة بالإيمان والأخلاق، ودوره في الحفاظ على وحدة الكنيسة الكاثوليكية. وحتى في الأمور التي تُعدّ ثانوية لدى البعض، مثل الخلاف حول الأيقونات التي عدَّها لوثر شكلاً من أشكال عبادة الأصنام، وعارض بشدة استخدامها في الكنائس، لأنها تشتت انتباه المؤمنين عن التركيز على الإيمان الحقيقي بالله (إلى الآن، تتميز الكنائس البروتستانتية عن شقيقاتها الكاثوليكية والأرثوذكسية بغياب الأيقونات أو أي رسومات داخل بناء الكنيسة)، أصرّت الكنيسة على أهمية الأيقونة انطلاقاً من أنها تساعد غير المتعلمين على فهم الكتاب المقدس، وتذكّر بحياة القديسين وتضحياتهم، وتخلق حالة روحانية تأملية أثناء الصلاة. وجُلّ ما تم فعله هو تنبيه مسؤولي الكنيسة بوجوب الاستخدام الصحيح للصور، والاحتراس من احتمالية تحوّله إلى عبادة الأصنام.

والأمر ذاته ينطبق على موضوع زواج الكهنة، فما زالت القوانين الكنيسة تُلزم الكهنة بالعزوبة كرمز لالتزام الكاهن بالدين ولتكريس نفسه بشكل كامل للخدمة الكهنوتية. ولا يستثنى من هذه القاعدة سوى بعض الكهنة في الكنيسة الكاثوليكية الشرقية، ولا يترقى الكاهن المتزوج في درجات الكهنوت. ولا يزال هذا الموضوع محل نقاش إلى اليوم، وقد أعرب البابا فرنسيس أخيراً عن انفتاحه على مناقشة موضوع زواج الكهنة، لكنه لم يُغيّر موقف الكنيسة الرسمي من الأمر.

مارتن لوثر مؤسس علمانية أوروبا

قد يبدو هذا العنوان الأخير غريباً، وبخاصة للمطلعين على حياة لوثر وآرائه، فأول ما يؤخذ عليه، في الغرب عموماً، هو انتقاداته العنيفة للديانات الأخرى وبخاصة اليهود، فقد هاجمهم في مؤلفات عديدة، وكان مؤمناً بالتقاليد التراثية التي تقول إن اليهود خانوا يسوع المسيح وقتلوه، وكثيراً ما دعا إلى العنف الوحشي ضدهم. ويرى كثير من المفكرين والمؤرخين أن موقفه من اليهود (رغم أن أسبابه دينية وليست عنصرية) بالإضافة إلى موقعه الجوهري في التاريخ الفكري لألمانيا، أعطى مرجعاً لأعضاء الحزب النازي لاحقاً، يدعم سياساتهم المعادية للسامية.

أما تأسيس لوثر لعلمانية أوروبا، فقد جاء من حيث لا يدري، ولم تكن هذه نيّته قطعاً، بل على العكس، فهو رجل دين شديد الإيمان بأهمية الدين في كل مفاصل الحياة العامة، وما أراده للكنيسة هو أن تكون أقوى وأكثر صحة، وبالتالي أوسع انتشاراً، لكنه ومن خلال التأكيد أن الكتاب المقدس وحده هو مصدر السلطة الروحية، وأن الغفران والخلاص يتمان بالإيمان وحده وليس بالأعمال الصالحة، ولا بشفاعة القديسين، ولا بصكوك الكنيسة، فقد أعطى لوثر هنا للأفراد حرية التفكير والإيمان بأنفسهم، وحَرَمَ الكنيسة من سلطة مهمة، وفتح الباب واسعاً أمام ظهور روح الشك والتساؤل العلمي وفلسفة “التنوير”، والتي كانت كلها من أهم عوامل ظهور العلمانية.

بالإضافة إلى ذلك، فقد أدت حركة الإصلاح البروتستانتية التي أسسها لوثر إلى تقسيم أوروبا إلى معسكرين دينيين: الكاثوليكي والبروتستانتي. وقد أدى هذا بدوره إلى تراجع نفوذ الكنيسة الكاثوليكية، وفتح المجال أمام ظهور حركات سياسية واجتماعية جديدة تدعو إلى فصل الدين عن الدولة. لكن هذا لن يحدث حتى عام 1648، عندما وُقِّعت معاهدات وستفاليا الشهيرة التي أعادت رسم خريطة أوروبا كلها، لكن مسيرة الوصول إلى ذلك الصلح كانت شاقة ودموية، إذ كانت الحروب الدينية مشتعلة على معظم أراضي القارة، وأودت بحياة نحو 8 ملايين أوروبي، ودمرت ما دمرت من اقتصادات وممتلكات.

هذه الحروب وهذه المعاهدة، بالإضافة إلى الحديث عن النشاط الفكري الفلسفي السياسي الذي تزامن معها، ستكون موضوع المقال القادم.

يتبع!

..عن عين الاردن